فصل: (المدثر: الآيات 26- 31)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[المدثر: الآيات 26- 31]

{سأُصْلِيهِ سقر (26) وما أدْراك ما سقرُ (27) لا تُبْقِي ولا تذرُ (28) لواحةٌ لِلْبشرِ (29) عليْها تِسْعة عشر (30) وما جعلْنا أصْحاب النّارِ إِلاّ ملائِكة وما جعلْنا عِدّتهُمْ إِلاّ فِتْنة لِلّذِين كفرُوا لِيسْتيْقِن الّذِين أوتُوا الْكِتاب ويزْداد الّذِين آمنُوا إِيمانا ولا يرْتاب الّذِين أوتُوا الْكِتاب والْمُؤْمِنُون ولِيقول الّذِين فِي قُلوبِهِمْ مرضٌ والْكافِرُون ما ذا أراد اللّهُ بِهذا مثلا كذلِك يُضِلُّ اللّهُ منْ يشاءُ ويهْدِي منْ يشاءُ وما يعْلمُ جُنُود ربِّك إِلاّ هو وما هِي إِلاّ ذِكْرى لِلْبشرِ (31)}
{سأُصْلِيهِ سقر} بدل من {سأُرْهِقُهُ صعُودا}. {لا تُبْقِي} شيئا يلقى فيها إلا أهلكته، وإذا هلك لم تذره هالكا حتى يعاد. أو لا تبقى على شيء ولا تدعه من الهلاك، بل كل ما يطرح فيها هالك لا محالة {لواحةٌ} من لوح الهجير. قال:
تقول ما لاحك يا مسافر ** يا ابنة عمّى لاحنى الهواجر

قيل. تلفح الجلد لفحة فتدعه أشدّ سوادا من الليل. والبشر: أعالى الجلود. وعن الحسن.
تلوح للناس، كقوله: {ثُمّ لتروُنّها عيْن الْيقِينِ} وقرئ: {لواحة}، نصبا على الاختصاص للتهويل {عليْها تِسْعة عشر} أى يلي أمرها ويتسلط على أهلها تسعة عشر ملكا. وقيل: صنفا من الملائكة.
وقيل: صفة. وقيل: نقيبا. وقرئ: {تسعة عشر}، بسكون العين لتوالى الحركات في ما هو في حكم اسم واحد. وقرئ: {تسعة أعشر}، جمع عشير، مثل: يمين وأيمن. جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنس المعذبين من الجن والإنس، فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرأفة والرقة، ولا يستروحون إليهم، ولأنهم أقوم خلق اللّه بحق اللّه وبالغضب له، فتؤمن هوادتهم، ولأنهم أشد الخلق بأسا وأقواهم بطشا.
عن عمرو بن دينار: واحد منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر. وعن النبي صلى الله عليه وسلم. «كأن أعينهم البرق، وكأن أفواههم الصياصي، يجرون أشعارهم، لأحدهم مثل قوّة الثقلين، يسوق أحدهم الأمة وعلى رقبته جبل فيرمى بهم في النار ويرمى بالجبل عليهم».
وروى أنه لما نزلت عليْها تِسْعة عشر قال أبو جهل لقريش. ثكلتكم أمهاتكم، أسمع ابن أبى كبشة يخبركم أنّ خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم، فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي وكان شديد البطش. أنا أكفيكم سبعة عشر، فاكفوني أنتم اثنين، فأنزل الله: {وما جعلْنا أصْحاب النّارِ إِلّا ملائِكة} أى ما جعلناهم رجالا من جنسكم يطاقون. فإن قلت: قد جعل افتنان الكافرين بعدة الزبانية سببا لاستيقان أهل الكتاب وزيادة إيمان المؤمنين واستهزاء الكافرين والمنافقين، فما وجه صحة ذلك؟ قلت. ما جعل افتتانهم بالعدة سببا لذلك، وإنما العدة نفسها هي التي جعلت سببا، وذلك أن المراد بقوله: {وما جعلْنا عِدّتهُمْ إِلّا فِتْنة لِلّذِين كفرُوا وما جعلنا عدتهم إلا تسعة عشر}، فوضع {فِتْنة لِلّذِين كفرُوا} موضع {تِسْعة عشر} لأن حال هذه العدة الناقصة واحدا من عقد العشرين. أن يفتتن بها من لا يؤمن باللّه وبحكمته ويعترض ويستهزئ، ولا يذعن إذعان المؤمن، وإن خفى عليه وجه الحكمة، كأنه قيل: ولقد جعلنا عدتهم عدة من شأنها أن يفتتن بها، لأجل استيقان المؤمنين وحيرة الكافرين واستيقان أهل الكتاب، لأن عدتهم تسعة عشر في الكتابين، فإذا سمعوا بمثلها في القرآن أيقنوا أنه منزل من اللّه، وازدياد المؤمنين إيمانا لتصديقهم بذلك كما صدقوا سائر ما أنزل، ولما رأوا من تسليم أهل الكتاب وتصديقهم أنه كذلك.
فإن قلت: لم قال: {ولا يرْتاب الّذِين أوتُوا الْكِتاب والْمُؤْمِنُون} والاستيقان وازدياد الإيمان دالا على انتفاء الارتياب؟
قلت. لأنه إذا جمع لهم إثبات اليقين ونفى الشك. كان آكد وأبلغ لوصفهم بسكون النفس وثلج الصدر، ولأن فيه تعريضا بحال من عداهم، كأنه قال: ولتخالف حالهم حال الشاكين المرتابين من أهل النفاق والكفر. فإن قلت: كيف ذكر الذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون، والسورة مكية، ولم يكن بمكة نفاق، وإنما نجم بالمدينة؟ قلت: معناه وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بالمدينة بعد الهجرة و{الْكافِرُون} بمكة {ماذا أراد اللّهُ بِهذا مثلا} وليس في ذلك إلا إخبار بما سيكون كسائر الإخبارات بالغيوب، وذلك لا يخالف كون السورة مكية. ويجوز أن يراد بالمرض: الشك والارتياب، لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكين وبعضهم قاطعين بالكذب. فإن قلت: قد علل جعلهم تسعة عشر بالاستيقان وانتفاء الارتياب وقول المنافقين والكافرين ما قالوا، فهب أن الاستيقان وانتفاء الارتياب يصح أن يكونا غرضين، فكيف صح أن يكون قول المنافقين والكافرين غرضا؟ قلت: أفادت اللام معنى العلة والسبب، ولا يجب في العلة أن تكون غرضا، ألا ترى إلى قولك: خرجت من البلد لمخافة الشر، فقد جعلت المخافة علة لخروجك وما هي بغرضك. مثلا تمييز لهذا، أو حال منه، كقوله: {هذِهِ ناقةُ اللّهِ لكُمْ آية}. فإن قلت: لم سموه مثلا؟ قلت: هو استعارة من المثل المضروب. لأنه مما غرب من الكلام وبدع، استغرابا منهم لهذا العدد واستبداعا له.
والمعنى: أى شيء أراد اللّه بهذا العدد العجيب، وأى غرض قصد في أن جعل الملائكة تسعة عشر لا عشرين سواء، ومرادهم إنكاره من أصله، وأنه ليس من عند اللّه، وأنه لو كان من عند اللّه لما جاء بهذا العدد الناقص.
الكاف في كذلِك نصب، وذلك: إشارة إلى ما قبله من معنى الإضلال والهدى، أى: مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى يضل الكافرين ويهدى المؤمنين، يعنى: يفعل فعلا حسنا مبنيا على الحكمة والصواب، فيراه المؤمنون حكمة ويذعنون له لاعتقادهم أن أفعال اللّه كلها حسنة وحكمة فيزيدهم إيمانا، وينكره الكافرون ويشكون. فيه فيزيدهم كفرا وضلالا.
وأورده السؤال على قاعدته بعد ذلك كله في أن اللّه لم يرد من المنافقين والكافرين أقوالهم، وإنما قالوا على خلاف ما أراد، وقد عرفت فساد القاعدة فأرح فكرك من هذا السؤال. فالكل مراد، وحسبك تتمة الآية {كذلِك يُضِلُّ اللّهُ منْ يشاءُ ويهْدِي منْ يشاءُ
وما يعْلمُ جُنُود ربِّك وما عليه}. كل جدد من العدد الخاص من كون بعضها على عقد كامل وبعضها على عدد ناقص، وما في اختصاص كل جند بعدده من الحكمة إِلّا هو ولا سبيل لأحد إلى معرفة ذلك كما لا يعرف الحكمة في أعداد السمأوات والأرضين وأيام السنة والشهور والبروج والكواكب وأعداد النصب والحدود والكفارات والصلوات في الشريعة. أو: وما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إلا هو، فلا يعز عليه تتميم الخزنة عشرين، ولكن له في هذا العدد الخاص حكمة لا تعلمونها وهو يعلمها. وقيل: هو جواب لقول أبى جهل: أما لرب محمد أعوان إلا تسعة عشر، {وما جعلنا أصحاب النار}- إلى قوله- {إلا هو}: اعتراض. وقوله: {وما هِي إِلّا ذِكْرى} متصل بوصف {سقر} وهي ضميرها، أى: وما سقر وصفتها إلا تذكرة {لِلْبشرِ} أو ضمير الآيات التي ذكرت فيها.

.[المدثر: الآيات 32- 37]

{كلاّ والْقمرِ (32) واللّيْلِ إِذْ أدْبر (33) والصُّبْحِ إِذا أسْفر (34) إِنّها لإِحْدى الْكُبرِ (35) نذِيرا لِلْبشرِ (36) لِمنْ شاء مِنْكُمْ أنْ يتقدّم أو يتأخّر (37)}
{كلّا} إنكار بعد أن جعلها ذكرى أن تكون لهم ذكرى، لأنهم لا يتذكرون. أو ردع لمن ينكر أن تكون إحدى الكبر نذيرا. و(دبر) بمعنى أدبر، كقبل بمعنى أقبل. ومنه صاروا كأمس الدابر. وقيل: هو من دبر الليل النهار إذا خلفه. وقرئ: {إذ أدبر إِنّها لإِحْدى الْكُبرِ} جواب القسم. أو تعليل لكلا، والقسم معترض للتوكيد. والكبر: جمع الكبرى، جعلت ألف التأنيث كتائها، فلما جمعت فعلة على فعل: جمعت فعلى عليها، ونظير ذلك: السوافي في جمع السافياء، والقواصع في جمع القاصعاء، كأنها جمع فاعلة، أى: لإحدى البلايا أو الدواهي الكبر، ومعنى كونها إحداهنّ: أنها من بينهن واحدة في العظم لا نظيرة لها، كما تقول: هو أحد الرجال، وهي إحدى النساء. و{نذِيرا} تمييز من إحدى، على معنى: إنها لإحدى الدواهي إنذارا، كما تقول: هي إحدى النساء عفافا. وقيل: هي حال. وقيل: هو متصل بأول السورة، يعنى: قم نذيرا، وهو من بدع التفاسير. وفي قراءة أبى: {نذير} بالرفع خبر بعد خبر (لأن) أو بحذف المبتدإ أنْ يتقدّم في موضع الرفع بالابتداء. و{لمن شاء}: خبر مقدّم عليه، كقولك: لمن توضأ أن يصلى، ومعناه مطلق لمن شاء التقدّم أو التأخر أن يتقدّم أو يتأخر، والمراد بالتقدّم والتأخر: السبق إلى الخير والتخلف عنه، وهو كقوله: {فمنْ شاء فلْيُؤْمِنْ ومنْ شاء فلْيكْفُرْ} ويجوز أن يكون {لِمنْ شاء} بدلا من {لِلْبشرِ} على أنها منذرة للمكلفين الممكنين: الذين إن شاءوا تقدّموا ففازوا، وإن شاءوا تأخروا فهلكوا.

.[المدثر: الآيات 38- 48]

{كُلُّ نفْسٍ بِما كسبتْ رهِينةٌ (38) إِلاّ أصْحاب الْيمِينِ (39) فِي جنّاتٍ يتساءلون (40) عنِ الْمُجْرِمِين (41) ما سلككُمْ فِي سقر (42) قالوا لمْ نكُ مِن الْمُصلِّين (43) ولمْ نكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِين (44) وكُنّا نخُوضُ مع الْخائِضِين (45) وكُنّا نُكذِّبُ بِيوْمِ الدِّينِ (46) حتّى أتانا الْيقِينُ (47) فما تنْفعُهُمْ شفاعةُ الشّافِعِين (48)}
{رهِينةٌ} ليست بتأنيث رهين في قوله: {كُلُّ امْرِئٍ بِما كسب رهِينٌ} لتأنيث النفس، لأنه لو قصدت الصفة لقيل: رهين، لأنّ فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإنما هي اسم بمعنى الرهن، كالشتيمة بمعنى الشتم، كأنه قيل: كل نفس بما كسبت رهن، ومنه بيت الحماسة:
أبعد الذي بالنّعف نعف كويكب ** رهينة رمس ذى تراب وجندل

والاستفهام إنكارى. والنعف- بالفتح-: الجبل والمكان المرتفع. وقيل: ما يستقبلك من الجبل. وكويكب: جبل بعينه. وفي هذا الاندال من التفصيل بعد الإجمال: ما ينبئ عن تفخيم المحل والحال، أى: أبعد قتل أبى المدفون في ذلك الموضع حال كونه محتبسا في رمس. وقيل: رهينة بالجر، بدل من الذي، فهو اسم ملحق بالجوامد بمعنى الرهن. ويقال: رمست الشيء رمسا إذا دفنته في التراب، فأطلق المصدر وأريد مكانه، وهو القبر. والجندل: الحجارة، وكررت همزة الاستفهام في قوله (أأذكر) توكيدا للأولى. لأنها داخلة على هذا الفعل تقديرا أيضا. ويحتمل أنها داخلة على مقدر، أى: أبعد أبى أفرح بالدية. وروى (أذكر) بالتشديد والبناء للمجهول، فالهمزة الأولى داخلة عليه، ولا شاهد فيه حينئذ. والبقيا: الإبقاء على الشيء، أى: لا أذكر بين الناس بأنى أبقيت على قاتل أبى، والحال أن إبقائى عليه كوني جاهدا ومصمم العزم على الفتك به غير حالف على ذلك، لأنى لا أحتاج إلى الحلف في تنفيذ أمورى. أو غير مقصر في الاجتهاد، لأن الائتلاء يجيء بمعنى الحلف وبمعنى التقصير، كأنه قال: رهن رمس. والمعنى: كل نفس رهن بكسبها عند اللّه غير مفكوك {إِلّا أصْحاب الْيمِينِ} فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطابوه من كسبهم، كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق. وعن على رضى اللّه عنه أنه فسر أصحاب اليمين بالأطفال، لأنهم لا أعمال لهم يرتهنون بها. وعن ابن عباس رضى اللّه عنه: هم الملائكة فِي جنّاتٍ أى هم في جنات لا يكتنه وصفها {يتساءلون عنِ الْمُجْرِمِين} يسأل بعضهم بعضا عنهم. أو يتساءلون غيرهم عنهم، كقولك: دعوته وتداعيناه. فإن قلت: كيف طابق قوله: {ما سلككُمْ} وهو سؤال للمجرمين: قوله: {يتساءلون عنِ الْمُجْرِمِين} وهو سؤال عنهم؟ وإنما كان يتطابق ذلك لو قيل: يتساءلون المجرمين ما سلككم قلت: ما سلككم ليس ببيان للتساؤل عنهم، وإنما هو حكاية قول المسئولين عنهم، لأنّ المسئولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين، فيقولون: قلنا لهم ما سلككم فِي سقر قالوا {لمْ نكُ مِن الْمُصلِّين} إلا أن الكلام جيء به على الحذف والاختصار، كما هو نهج التنزيل في غرابة نظمه. الخوض: الشروع في الباطل وما لا ينبغي. فإن قلت: لم يسألونهم وهم عالمون بذلك قلت: توبيخا لهم وتحسيرا، وليكون حكاية اللّه ذلك في كتابه تذكرة للسامعين. وقد عضد بعضهم تفسير أصحاب اليمين بالأطفال: أنهم إنما سألوهم لأنهم ولدان لا يعرفون موجب دخول النار. فإن قلت: أيريدون أنّ كل واحد منهم بمجموع هذه الأربع دخل النار، أم دخلها بعضهم بهذه وبعضهم بهذه؟ قلت: يحتمل الأمرين جميعا. فإن قلت: لم أخر التكذيب وهو أعظمها؟ قلت: أرادوا أنهم بعد ذلك كله كانوا مكذبين بيوم الدين تعظيما للتكذيب. كقوله: {ثُمّ كان مِن الّذِين آمنُوا} و{الْيقِينُ} الموت ومقدماته، أى: لو شفع لهم الشافعون جميعا من الملائكة والتبيين وغيرهم لم تنفعهم شفاعتهم، لأنّ الشفاعة لمن ارتضاه اللّه وهم مسخوط عليهم.
وفيه دليل على أنّ الشفاعة تنفع يومئذ، لأنها تزيد في درجات المرتضين.